قصة أصحاب الأخدود:
صفحة 1 من اصل 1
قصة أصحاب الأخدود:
أصحاب الأخدود
رفاعي سرور
مقدمة الطبعة الخامسة
سورة البروج..
المقروءة...آيات ميسرة في تهجد محنة وبلاء.
والمسموعة...صوت أنفاس أخيرة في حياة الشهداء.
والمكتوبة...خدش أظافر مستضعفة في حائط سجن لتكون أفقًا وسماءً.
والمروية.. قصة تبيان عن النبي صلى الله عليه وسلم..
أصحاب الأخدود.
وقف لازم في قراءة تاريخية للدعوة.
ودرس تام في منهجها..
وتجربة كاملة في واقعها..
وهذا هو الطريق..
المؤلف
مقدمة المؤلف
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد:
هذه القصة حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وكل من يروى حديثًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم إما أن يكون من الرواة المتخصصين في الرواية مثل أبى هريرة وابن عباس، وإما أن يكون صحابيًا غير متخصص دفعه إلى الرواية إما ارتباط الأحكام التي يتضمنها الحديث بمعيشته مثل عدي بن حاتم الذي روى أحاديث الصيد لأنه كان صيادًا، وإما أن يكون الدافع في الرواية هو عمق التأثر بمعاني الحديث، وراوي هذا الحديث ممن دفعهم عمق التأثر بالمعنى، وهو صهيب الرومي الذي كان مستضعفًا في مكة وأراد أن يهاجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يتمكن فحاول الفرار بعد الهجرة فعلم المشركون بخبره فتعقبوه فلما اقتربوا منه قالوا له: جئتنا فقيرًا فاغتنيت عندنا فهل تريد أن تذهب بهذا المال إلى محمد؟ فقال لهم: إذا أخبرتكم عن مكان المال تتركوني؟ قالوا: نعم، فدلهم على مكان المال، فتركوه، فذهب إلى رسول الله وأخبره فقال له:"ربح البيع، ربح البيع".
وفيه نزل قول الله تعالى: {ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد} [البقرة 207].
وقد روى خباب بن الأرت جزءًا من هذا الحديث عن رسول الله وهو الذي ذكر فيه العذاب الذي تعرض لـه أصحاب الدعوة والشق بالمناشير كما سيجيء في القصة، ويكفي لمعرفة خباب أن يكون هو الناطق برجاء كل المستضعفين حيث يقول: « أتيت النبي وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلت ألا تدعو الله لنا؟ ».. وفي رواية « ألا تستنصر لنا ».
كما يكفي لمعرفة خباب أن يكون آخذ سورة الشعراء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
روى الإمام أحمد عن معدي كرب قال : (أتينا عبد الله فسألناه أن يقرأ علينا طسم المائتين فقال: ما هي معي، ولكن عليكم بمن أخذها من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: خباب بن الأرت. قال: فأتينا خباب بن الأرت فقرأها علينا رضي الله عنه).
وفي صحيح الترمذي ملاحظة هامة في رواية هذا الحديث وهي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذكر مع هذا الحديث حديثًا آخر عن صهيب قال: كان رسول الله، إذا صلى العصر همس - والهمس في قول بعضهم: تحرك شفتيه كأنه يتكلم – فقيل له: إنك يارسول الله إذا صليت العصر همست. قال: إن نبيًا من الأنبياء كان أعجب بأمته فقال: من يقوم لهؤلاء، فأوحى الله إليه أن خيِّرهم بين: أن أنتقم منهم، وبين أن أسلط عليهم عدواً لهم؟ فاختاروا النقمة فسلط عليهم الموت فمات منهم في يوم سبعون ألفًا.
قال: وكان إذا حدث بهذا الحديث الآخر عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كان ملك... » وبذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذين الحديثين معًا ودائمًا.. يتحقق بُعدان أساسيان لقضية واحدة وهي قضية العلاقة بين العدد والفاعلية القدرية للعدد.
حيث يمثل الحديث الأول بُعد الكثرة الفاقدة لفاعليتها بالعجب بهذه الكثرة وهو مضمون الحديث
نص الحديث
عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
« كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان لـه ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلامًا أعلمه السحر، فبعث إليه غلامَا يعلمه. فكان في طريقه، إذا سلك، راهبٌ فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه. فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب، وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه.. فشكى ذلك إلى الراهب. فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة. قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم: الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، حتى يمضي الناس. فرماها فقتلها. ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره، فقال لـه الراهب: أي بني! أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدلَّ عليَّ. وكان الغلام يبرىء الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الدواء، فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة. فقال: ما ههنا لك أجمع، إن أنت شفيتني. فقال إني لا أشفي أحداً. إنما يشفي الله (تعالى) فإن آمنت بالله تعالى دعوت الله فشفاك.فآمن بالله تعالى فشفاه الله. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال لـه الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام. فجيء بالغلام فقال لـه الملك: أي بني، قد بلغ من سحرك ما تبرىء الأكمه والأبرص وتفعل ما تفعل؟.. قال: إني لا أشفي أحداً. إنما يشفي الله (تعالى) فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك فقيل لـه: ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه. ثم جيء بالغلام فقيل لـه : ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته. فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل. فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال لـه الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال كفانيهم الله (تعالى) فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك فقال لـه الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله (تعالى). فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به! فقال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس وقل: بسم الله رب الغلام. ثم ارمني. فإنك إن فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع. ثم أخذ سهماً من كنانته. ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في موضع السهم فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام ثلاثاً فأُتيَ الملك فقيل لـه: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد، والله! وقع بك حذرك. قد آمن الناس فأمر بالأخاديد في أفواه السكك فَخُدَّت وأُضرم (فيها) النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها أو قيل لـه: اقتحم.. ففعلوا حتى جاءت امرأة معها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام: ياأمه! اصبري فإنك على الحق ». (رواه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي).
« كان ملك فيمن كان قبلكم وكان لـه ساحر » وهذه هي بداية القصة، وهذا هو التحديد التاريخي لأحداثها دون ذكر للزمان والمكان لتتجرد معاني تلك الأحداث وتصبح مجردة ومطلقة فيمكن- اعتناقها والاستفادة بها بغير الارتباط أو التعلق بظروفها وملابساتها.
فكان تجريد أحداث هذه القصة هو الأساس التسجيلي لها لأنها أتت بعد ذلك إثباتاً تاريخياً موجهاً نحو تحقيق قيمتها كتجربة قائمة إلى نهاية الزمان وإلى اليوم الموعود.
ولهذا جاء كل التحديد التاريخي في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فيمن كان قبلكم ) يريد فيما مضى ولكنه يربط هذا الماضي بحاضر الدعوة في عهده فيقول: (قبلكم) وبذلك أضيفت أحداث هذه القصة.. بعد تجريدها إلى واقع الدعوة القائم الآن. حيث أن هذا الواقع القائم الآن هو الامتداد الصحيح لواقع الدعوة منذ بدايتها مع بداية الزمان. وهذا هو المعنى الأول المأخوذ من تلك البداية.
والمعنى الثاني: هو أن هذه البداية حددت باللفظة الأولى (كان ملك..) طبيعة هذه الدعوة فكان أول ما وضح منها هو ضرورة المواجهة- منذ البداية - بين واقع الدعوة والسلطة الكافرة التى تسيطر على واقع الناس المراد تحقيق غاية الدعوة فيهم.
ولقد برزت ضرورة المواجهة بين الدعوة إلى الحق والحكم الباطل بصورة واضحة جداً في دعوة موسى إذ قال سبحانه له: {اذهب إلى فرعون إنه طغى} [النازعات:17].
ذلك أن الرسالة لم تكن أصلاً إلى فرعون لأن موسى كان مرسلاً إلى بني إسرائيل وكان كل ما يريده هو الخروج ببني إسرائيل من مصر: {فأرسل معى بنى إسرائيل}.
ورغم هذا فإن المواجهة كانت مع فرعون باعتباره مسيطراً على واقع الناس الذين كانت الرسالة إليهم.
وكانت مواجهة عقيدية مرتبطة بتصور الدعوة ومنهجها مؤكدة كل حقائق الرسالة وقضاياها وبهذا يكون موسى قد بدأ بدعوته إلى بني إسرائيل البداية الطبيعية عندما واجه فرعون وملأه.
وبذلك نفهم أن العداء بين الدعاة إلى الحق وبين حكام الباطل أمر بدهي مفروض من البداية وبمجرد التفكير في غاية الدعوة والنظر إلى واقع الناس.
وعلى هذا فإن أي دعوة إلى الحق - تظهر في الواقع الباطل توجيهاً نظرياً أو فكرياً مجرداً لا يتضمن تقدير مواجهة هذا الباطل في قوته وسلطانه ستكون قتيلة بسنن الوجود وتُلفظ من واقع الناس.. كالجنين الذي يلفظه الرحم وهو غير مخلَّق. فالدعوة إلى جميع الناس.. حاكمين ومحكومين لأن الدعوة دعوة للحق فلو كانت للمحكومين دون الحاكمين لأصبحت فكراً خاضعاً لمن يحكم بالباطل ولو كانت للحاكمين دون المحكومين لأصبحت وسيلة من وسائل هذا الحكم الباطل.
ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً في بداية الدعوة على إعلانها على الملأ والجهر بأنها دعوة إلى جميع الناس فكان يبعث إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وهو لا يزال في مرحلـة الاستضعاف تأكيداً لأبعاد الدعوة من البداية ودون اعتبار للإمكانيات أو مراعاة لميزان القوة بينه وبين هؤلاء الملوك.
فمن الملوك من كان يفهم قصد الرسول صلى الله عليه وسلم مثل هرقل الذي وصلت رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته إلى الإسلام فناقش أبا سفيان الذي كان حاضراً في بلاد الروم عندما أراد هرقل بحث أمر الرسالة. وتم حوار رائع حول الدعوة بين هرقل وأبي سفيان انتهى بقول هرقل: ( والله لو كان كما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين ولو كنت أعلم أني أخلص إليه لتجشمت - تمنيت - لقائه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه) ثم يواصل تأكيد فهمه لطبيعة الدعوة الصحيحة فيوجه نصحه إلى الروم قائلاً: يامعشر الروم، هل لكم في أن يثبت ملكم فتبايعوا هذا النبي؟
رفاعي سرور
مقدمة الطبعة الخامسة
سورة البروج..
المقروءة...آيات ميسرة في تهجد محنة وبلاء.
والمسموعة...صوت أنفاس أخيرة في حياة الشهداء.
والمكتوبة...خدش أظافر مستضعفة في حائط سجن لتكون أفقًا وسماءً.
والمروية.. قصة تبيان عن النبي صلى الله عليه وسلم..
أصحاب الأخدود.
وقف لازم في قراءة تاريخية للدعوة.
ودرس تام في منهجها..
وتجربة كاملة في واقعها..
وهذا هو الطريق..
المؤلف
مقدمة المؤلف
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد:
هذه القصة حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وكل من يروى حديثًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم إما أن يكون من الرواة المتخصصين في الرواية مثل أبى هريرة وابن عباس، وإما أن يكون صحابيًا غير متخصص دفعه إلى الرواية إما ارتباط الأحكام التي يتضمنها الحديث بمعيشته مثل عدي بن حاتم الذي روى أحاديث الصيد لأنه كان صيادًا، وإما أن يكون الدافع في الرواية هو عمق التأثر بمعاني الحديث، وراوي هذا الحديث ممن دفعهم عمق التأثر بالمعنى، وهو صهيب الرومي الذي كان مستضعفًا في مكة وأراد أن يهاجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يتمكن فحاول الفرار بعد الهجرة فعلم المشركون بخبره فتعقبوه فلما اقتربوا منه قالوا له: جئتنا فقيرًا فاغتنيت عندنا فهل تريد أن تذهب بهذا المال إلى محمد؟ فقال لهم: إذا أخبرتكم عن مكان المال تتركوني؟ قالوا: نعم، فدلهم على مكان المال، فتركوه، فذهب إلى رسول الله وأخبره فقال له:"ربح البيع، ربح البيع".
وفيه نزل قول الله تعالى: {ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد} [البقرة 207].
وقد روى خباب بن الأرت جزءًا من هذا الحديث عن رسول الله وهو الذي ذكر فيه العذاب الذي تعرض لـه أصحاب الدعوة والشق بالمناشير كما سيجيء في القصة، ويكفي لمعرفة خباب أن يكون هو الناطق برجاء كل المستضعفين حيث يقول: « أتيت النبي وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلت ألا تدعو الله لنا؟ ».. وفي رواية « ألا تستنصر لنا ».
كما يكفي لمعرفة خباب أن يكون آخذ سورة الشعراء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
روى الإمام أحمد عن معدي كرب قال : (أتينا عبد الله فسألناه أن يقرأ علينا طسم المائتين فقال: ما هي معي، ولكن عليكم بمن أخذها من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: خباب بن الأرت. قال: فأتينا خباب بن الأرت فقرأها علينا رضي الله عنه).
وفي صحيح الترمذي ملاحظة هامة في رواية هذا الحديث وهي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذكر مع هذا الحديث حديثًا آخر عن صهيب قال: كان رسول الله، إذا صلى العصر همس - والهمس في قول بعضهم: تحرك شفتيه كأنه يتكلم – فقيل له: إنك يارسول الله إذا صليت العصر همست. قال: إن نبيًا من الأنبياء كان أعجب بأمته فقال: من يقوم لهؤلاء، فأوحى الله إليه أن خيِّرهم بين: أن أنتقم منهم، وبين أن أسلط عليهم عدواً لهم؟ فاختاروا النقمة فسلط عليهم الموت فمات منهم في يوم سبعون ألفًا.
قال: وكان إذا حدث بهذا الحديث الآخر عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كان ملك... » وبذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذين الحديثين معًا ودائمًا.. يتحقق بُعدان أساسيان لقضية واحدة وهي قضية العلاقة بين العدد والفاعلية القدرية للعدد.
حيث يمثل الحديث الأول بُعد الكثرة الفاقدة لفاعليتها بالعجب بهذه الكثرة وهو مضمون الحديث
نص الحديث
عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
« كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان لـه ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلامًا أعلمه السحر، فبعث إليه غلامَا يعلمه. فكان في طريقه، إذا سلك، راهبٌ فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه. فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب، وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه.. فشكى ذلك إلى الراهب. فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة. قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم: الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، حتى يمضي الناس. فرماها فقتلها. ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره، فقال لـه الراهب: أي بني! أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدلَّ عليَّ. وكان الغلام يبرىء الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الدواء، فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة. فقال: ما ههنا لك أجمع، إن أنت شفيتني. فقال إني لا أشفي أحداً. إنما يشفي الله (تعالى) فإن آمنت بالله تعالى دعوت الله فشفاك.فآمن بالله تعالى فشفاه الله. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال لـه الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام. فجيء بالغلام فقال لـه الملك: أي بني، قد بلغ من سحرك ما تبرىء الأكمه والأبرص وتفعل ما تفعل؟.. قال: إني لا أشفي أحداً. إنما يشفي الله (تعالى) فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك فقيل لـه: ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه. ثم جيء بالغلام فقيل لـه : ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته. فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل. فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال لـه الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال كفانيهم الله (تعالى) فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك فقال لـه الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله (تعالى). فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به! فقال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس وقل: بسم الله رب الغلام. ثم ارمني. فإنك إن فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع. ثم أخذ سهماً من كنانته. ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في موضع السهم فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام ثلاثاً فأُتيَ الملك فقيل لـه: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد، والله! وقع بك حذرك. قد آمن الناس فأمر بالأخاديد في أفواه السكك فَخُدَّت وأُضرم (فيها) النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها أو قيل لـه: اقتحم.. ففعلوا حتى جاءت امرأة معها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام: ياأمه! اصبري فإنك على الحق ». (رواه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي).
« كان ملك فيمن كان قبلكم وكان لـه ساحر » وهذه هي بداية القصة، وهذا هو التحديد التاريخي لأحداثها دون ذكر للزمان والمكان لتتجرد معاني تلك الأحداث وتصبح مجردة ومطلقة فيمكن- اعتناقها والاستفادة بها بغير الارتباط أو التعلق بظروفها وملابساتها.
فكان تجريد أحداث هذه القصة هو الأساس التسجيلي لها لأنها أتت بعد ذلك إثباتاً تاريخياً موجهاً نحو تحقيق قيمتها كتجربة قائمة إلى نهاية الزمان وإلى اليوم الموعود.
ولهذا جاء كل التحديد التاريخي في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فيمن كان قبلكم ) يريد فيما مضى ولكنه يربط هذا الماضي بحاضر الدعوة في عهده فيقول: (قبلكم) وبذلك أضيفت أحداث هذه القصة.. بعد تجريدها إلى واقع الدعوة القائم الآن. حيث أن هذا الواقع القائم الآن هو الامتداد الصحيح لواقع الدعوة منذ بدايتها مع بداية الزمان. وهذا هو المعنى الأول المأخوذ من تلك البداية.
والمعنى الثاني: هو أن هذه البداية حددت باللفظة الأولى (كان ملك..) طبيعة هذه الدعوة فكان أول ما وضح منها هو ضرورة المواجهة- منذ البداية - بين واقع الدعوة والسلطة الكافرة التى تسيطر على واقع الناس المراد تحقيق غاية الدعوة فيهم.
ولقد برزت ضرورة المواجهة بين الدعوة إلى الحق والحكم الباطل بصورة واضحة جداً في دعوة موسى إذ قال سبحانه له: {اذهب إلى فرعون إنه طغى} [النازعات:17].
ذلك أن الرسالة لم تكن أصلاً إلى فرعون لأن موسى كان مرسلاً إلى بني إسرائيل وكان كل ما يريده هو الخروج ببني إسرائيل من مصر: {فأرسل معى بنى إسرائيل}.
ورغم هذا فإن المواجهة كانت مع فرعون باعتباره مسيطراً على واقع الناس الذين كانت الرسالة إليهم.
وكانت مواجهة عقيدية مرتبطة بتصور الدعوة ومنهجها مؤكدة كل حقائق الرسالة وقضاياها وبهذا يكون موسى قد بدأ بدعوته إلى بني إسرائيل البداية الطبيعية عندما واجه فرعون وملأه.
وبذلك نفهم أن العداء بين الدعاة إلى الحق وبين حكام الباطل أمر بدهي مفروض من البداية وبمجرد التفكير في غاية الدعوة والنظر إلى واقع الناس.
وعلى هذا فإن أي دعوة إلى الحق - تظهر في الواقع الباطل توجيهاً نظرياً أو فكرياً مجرداً لا يتضمن تقدير مواجهة هذا الباطل في قوته وسلطانه ستكون قتيلة بسنن الوجود وتُلفظ من واقع الناس.. كالجنين الذي يلفظه الرحم وهو غير مخلَّق. فالدعوة إلى جميع الناس.. حاكمين ومحكومين لأن الدعوة دعوة للحق فلو كانت للمحكومين دون الحاكمين لأصبحت فكراً خاضعاً لمن يحكم بالباطل ولو كانت للحاكمين دون المحكومين لأصبحت وسيلة من وسائل هذا الحكم الباطل.
ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً في بداية الدعوة على إعلانها على الملأ والجهر بأنها دعوة إلى جميع الناس فكان يبعث إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وهو لا يزال في مرحلـة الاستضعاف تأكيداً لأبعاد الدعوة من البداية ودون اعتبار للإمكانيات أو مراعاة لميزان القوة بينه وبين هؤلاء الملوك.
فمن الملوك من كان يفهم قصد الرسول صلى الله عليه وسلم مثل هرقل الذي وصلت رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته إلى الإسلام فناقش أبا سفيان الذي كان حاضراً في بلاد الروم عندما أراد هرقل بحث أمر الرسالة. وتم حوار رائع حول الدعوة بين هرقل وأبي سفيان انتهى بقول هرقل: ( والله لو كان كما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين ولو كنت أعلم أني أخلص إليه لتجشمت - تمنيت - لقائه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه) ثم يواصل تأكيد فهمه لطبيعة الدعوة الصحيحة فيوجه نصحه إلى الروم قائلاً: يامعشر الروم، هل لكم في أن يثبت ملكم فتبايعوا هذا النبي؟
محمد كمال- عدد المساهمات : 66
نقاط : 164
تاريخ التسجيل : 02/07/2009
العمر : 30
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى